الاختيارات الفقهية للإمام ابن رجب في الطهارة من خلال كتابه فتح الباري (دراسة مقارنة)

ملخص الرسالة

الاختيارات الفقهية للإمام ابن رجب في الطهارة من خلال كتابه فتح الباري

(دراسة مقارنة)

مقدمة البحث:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وأن محمّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فإن الفقه في الدين من أفضل العبادات وأزكاها وأشرفها، لتضمنه معرفة الله تبارك وتعالى، ومعرفة دينه وشرعه، وأن الاشتغال فيه من أعلى المراتب وأسماها، وقد هيأ الله سبحانه لهذا العلم رجالًا يحملونه ويبلغونه فيه، يجتهدون ويستنبطون، وجهدًا في خدمته لا يألون.

فدراسة الفقه الإسلامي ومعرفة فقهاء الإسلام الذين يرجع إليهم في هذا الشأن، من الأمور المهمة، فهو مسلك الأنبياء وميراثهم، والعلماء أحفادهم ووراثهم، فهم العلماء العاملون، هم من أعلى الله شانهم، ورفع قدرهم، هم علماء الهدى ومصابيح الدجى، قال تعالى في حقهم: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]. وقال: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].

وتظهر أهمية علم الفقه وشرفه، في فرض الله تعالى طلبه وتحصيله على طائفة من كل فرقة ليتفقهوا في الدين ويُعلِّموا قومهم، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122] وعلم الفقه يشمل مجالات الحياة والآخرة كافة، فهو يشمل أحكام العبادات والمعاملات وغيرها من الأبواب، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الفوز والنجاة في التفقه في الدين، فقال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: « مَنْ يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»[1]، ولهذا اخترت البحث في الفقه ولاسيما الفقه المقارن الذي يبحث في حكم مسألة فقهيه معينة اختلف الفقهاء في حكمها تبعًا لاختلافهم في الدليل وفهمه ومناقشة كل مذهبٍ مع دليله وصولًا إلى الراجح من هذه الآراء، وبذلك تتوسع المدارك الفقهية للباحث، ويتعرف على أراء المذاهب المتبوعة وأدلتهم، ووجهات نظرهم في هذه الأدلة، فيتولد في النفس احترامهم وتقديرهم، ويتعرف على مدى الجهد الذي بذلوه في اجتهادهم في استنباط الأحكام من النصوص.

أما اختياري لهذا البحث فلسببين:

الأول: بَرًّا بهذا الإمام الجليل، وتبيانًا لقدره الجميل – ولا سيما مع عدم شهرة المذهب الذي عليه - رحمه الله تعالى - في بلدنا، فقد رأيت فيه موسوعة علمية مشتملة على علوم شتى، فأردت اقتطاع ثمرةٍ من بستان علمه، والإفادة من عمق فهمه، ومن قوة اجتهاده، ولما كان (فتح الباري) ذا أبواب كثيرة - مع عدم اكتماله - لا يحصيه بحث واحد، فقد اقتصرت فيه على كتاب (الطهارة) فقط.

ثانيًا: إبرازًا لكتابه (فتح الباري) والذي لا يُصرف عند إطلاقه إلا بكونه مُؤلفًا من مؤلفات الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى. فإن كتاب (فتح الباري للحافظ ابن رجب) يُعد من أهم المراجع الفقهية الحديثية للمذهب الحنبلي خاصة، والفقه المقارن عامه.

منهجي في البحث:

لقد قمت أول أمري بمراجعة كتاب الطهارة في "الفتح" عدة مرات، من عند كتاب الوضوء[2] للوقوف على المسائل الخلافية وغير الخلافية التي تناولها ابن رجب الحنبلي، فقمت باستخراجها ثم مقارنة كل مسألة بآراء الفقهاء في المذاهب الأربعة المشتهرة، بالإضافة إلى مذاهب أخرى كالظاهرية والزيدية، وقدمت دائمًا القول الذي يختاره ابن رجب، ثم اذكر الأقوال الأخرى، بغض النظر عما إذا كان القول قول الجمهور أو غيرهم، أو كان راجحًا أو مرجوحًا، وذلك لإبراز اختيار ابن رجب، لكون البحث أساسًا يعتمد على اختياراته، ثم ذكرت بعد كلِّ قولٍ أسماء القائلين به وأدلتهم ومناقشتها، وهكذا مع كل قول إلى أن استخلص الرأي الذي أرجحه من خلال مناقشة الأدلة، وبيان مدى صحتها من ضعفها، وإن لم يكن ترجيحي موافقًا لترجيح ابن رجب. ولم أرجح قولا ًلمكانة ومنزلة قائله تقليدًا له بل لقوة دليله، وهذا من الإنصاف العلمي لهم، لأنهم هم الذين أرشدونا إلى الدليل، وهكذا كان نهجهم ونحن عليه سائرون - إن شاء الله تعالى - علمًا بأني توقفت عن الترجيح في بعض المسائل، وذلك لما أرى من قوة أدلة المذاهب والمعتمدة على قواعد وأصول تنبع منها حججهم، فلم استطع ترجيح مذهب على الآخر، كما أني حاولت جاهدًا أن أكون موضوعيًّا ومحايدًا متحررًا من هيمنة وتأثير أي مذهب، وأن أدرس المسألة دراسة علمية خالصة، فما كان من الخطأ والتقصير فمني، وعزائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد المجتهد المخلص الأجر أخطأ أم أصاب، وإن أصبتُ فمن الله وحده، أشكره وأحمده على ذلك.

أهم المعوقات والصعوبات التي واجهتني:

1) لا يخفى على أحد ما مرت به مدينة بغداد من تدهور الأمن فيها.

2) بعد المسافة بكوني من سكنة المحافظات وهذا مما قوض حركتنا، وقلل من مجيئنا إلى المكتبات واللقاء بالشيوخ والأساتذة.

3) وزاد هذه المعاناة معاناتيَ الخاصة وحاجتي الماسة إلى الرفيق المعين، الذي يعينني على الكتابة وقراءة المصادر واستعارتها واستنساخها، ومرافقتي من مكان إلى آخر، وبما أننا في وقت انشغل كل ٌ بما له من متطلبات حياته وانقطاعه لها، فقد أدى ذلك إلى إعاقتي عن الوصول إلى ما رجوت، وعلى ما خططت له، مما جعلني أضع القلم أيامًا وشهورًا عن الكتابة، وعلى الرغم من هذه الظروف الصعبة، فقد اجتهدت وبذلت الوسع لأقدم البحث كما ينبغي دون الإخلال بالمادة العلمية، وذلك بفضل الله عز وجل ثم بفضل زوجتي التي ذللت لي هذه الصعاب، وهذا جهد المقل وأحمده تعالى وأشكره على توفيقه.

خطتي في البحث:

اعتمد تقسيم البحث بعد هذه المقدمة على أربعة فصول وخاتمة، وقد ترجمت لبعض الأعلام الذين ورد ذكرهم في البحث، والذي يستدعي الأمر ترجمتهم، وقد رتبتهم بحسب حروف المعجم ليسهل على القارئ الوصول إليهم.

ثم ذكرت ثبت المصادر التي اعتمدتها في البحث، ورتبتها بحسب حروف المعجم. وقد اعتمدت في دراستي على نسختي (فتح الباري) بتحقيق مجموعة من الباحثين / مكتبة الغرباء الأثرية، والنسخة الأخرى بتحقيق الشيخ أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد/ دار ابن الجوزي/ ط:3-1425هـ.

وفيما يأتي خطة البحث:

الفصل الأول: ترجمة الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى – وفيه مبحثان:

المبحث الأول: حياة ابن رجب الشخصية وفيه مطلبان.

المبحث الثاني حياة ابن رجب العلمية، وفيه أربعة مطالب.

أما الفصل الثاني: الأحكام التي تتعلق بالتيمم وفيه خمسة مباحث:

المبحث الأول: ما يصح التيمم به من أجزاء الأرض، وحكم نفخ اليدين منه، وفيه مطلبان.

المبحث الثاني: مقدار مسح الوجه واليدين في التيمم وحكم الترتيب بينهما، وفيه ثلاثة مطالب.

المبحث الثالث: أحكام التيمم التي تتعلق بالمسافر والمقيم الصحيح، وفيه أربعة مطالب.

المبحث الرابع: أحكام التيمم التي تتعلق بالمريض، وفيه ثلاثة مطالب.

المبحث الخامس: مسائل متفرقة في أحكام التيمم، وفيه ستة مطالب.

أما الفصل الثالث: الأحكام الفقهية التي تتعلق بالغُسل من الجنابة، وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: الأحكام التي تتعلق بالوضوء في غسل الجنابة، وفيه ثلاثة مطالب.

المبحث الثاني: الأحكام التي تتعلق فيما يراه النائم، وفيه مطلبان.

المبحث الثالث: الأحكام التي تتعلق بصفة غسل الجنابة، وفيه ثلاثة مطالب.

المبحث الرابع: مسائل متفرقة في غسل الجنابة، وفيه ثلاثة مطالب.

الفصل الرابع: أحكام تتعلق بالحيض والاستحاضة، وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: الأحكام الفقهية بوطء الحائض، وفيه مطلبان.

المبحث الثاني: الأحكام التي تتعلق بصلاة الحائض وطهارتها، وفيه ستة مطالب.

المبحث الثالث: الأحكام التي تتعلق بالاستحاضة وفيه ثلاثة مطالب.

ثم ختمتُ البحث بخاتمةٍ بيَّنت فيها أهم النتائج وأبرزها التي توصلتُ إليها.

وفي الختام فإني أرجو - أول الرجاء - أن يتقبل الله عملي هذا، وأن يجعله في ميزان حسناتي، وأشكرُ كل من أعانني بأي شكل من الأشكال.

وصلِ اللهم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبهِ وسلم.

الخاتمة:

بعد هذا الترحال بين كتب العلماء وأسفارهم، فإنا نضع رحالنا هنا موردين أهم ما توصلنا إليه من نتائج، وأهم ما نراه من توصيات.

النتائج:

1) نشأ ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - في أسرة علمية مشهورة وعريقة بالعلم والدعوة إلى الله تعالى، وهذا كان له أثر واضح على نبوغه وبروزه في علوم الشريعة.

2) ظهر من خلال ترحالنا أن ابن رجب الحنبلي موسوعة ثقافية، وخزينة علمية شاملة، يستطيع الدارسون والباحثون تناول درر فقهه من خلال التتبع الدقيق لمناهجه في كتبه الفقهية والحديثيه.

3) لابن رجب الحنبلي ترجيحاته واختياراته الفقهيه، وبألفاظ ومصطلحات تدل على اختياراته، وهذا أسلوب العلماء في الاختيار والترجيح[3].

4) لم يكن لابن رجب الحنبلي إفرادات في الاختيار، وإنما كان يختار رأي الفقيه الذي يراه قريبًا إلى المصادر التشريعية المعمول بها عند العلماء.

5) لم يكن ابن رجب يقدم على الحديث الصحيح عملا ولا رأيا ولا قول صاحب، فإذا وجد النص أخذ بموجبه ولم يلتفت إلى من خالفه كائنًا من كان، ولهذا لم يلتفت إلى قول علي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - في ترك الغسل من الإكسال لصحة حديث عائشة رضي الله عنها أنها فعلته هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلا[4].

6) وافق ابن رجب الحنبلي الإمام أحمد في أكثر آرائه، ولكن له مخالفات معه، وهذه المخالفات لا تجعله يخرج عن مذهبه، بل تدل على عدم تعصبه لمذهبه. مثاله ما اختاره في حكم الصفرة والكدرة والحمرة في أيام الحيض؛ حيث اختار ما رآه الظاهرية مخالفًا بذلك مذهب الحنابلة[5].

التوصيات:

1 - أوصي طلبة العلم الشرعي من الباحثين والدارسين اقتفاء أثر هذا العنوان؛ فهو باب واسع وغني بالفقه المقارن وأن يواصلوا دراسة هذا السفر الفقهي بتجرد وحيادية، والابتعاد عن إضفاء طابع القداسة على النص الفقهي؛ لأنَّ كلام العلماء ليس بمعصوم، فهو قابل للدراسة والفهم، فكل منا يؤخذ منه ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح عن الأئمة قولهم: إن صح الحديث فهو مذهبي. وهذا من تمام فقههم وإنصافهم وحسن إتباعهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام.

2 - وأوصيهم أيضا بدراسة الأحاديث المنتشرة في كتب الفقه والتي اشتهرت على السنة الفقهاء، وبيان درجتها من حيث الصحة والضعف والرد والقبول لأنها الدليل الذي يعتمد عليه الفقهاء في تقرير مذهبهم واستنباط الأحكام وإصدار الفتاوى.

وفي الختام فإنَّ هذا جهد المقل واجتهاد من يرى الرأي اليوم ويخالفه غدًا، ورأي من قلَّ علمه وكثرت زلاته، فإن كان فيه من صواب فبفضل الله تعالى، وما كان فيه من خطأ وزلل فمني والله ورسوله منه براء، وأسأله تعالى أن يجعل ثوابه في ميزان الحسنات وأن يتجاوز عن السيئات، ويدخلنا الجنة مع الأبرار، إنه مجيب الدعوات. والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

فهرس المحتويات