الدعم لمنع القتل أم الدعم لأجل الدفن؟

في أحداث غزة تحركت مشاعر كثير من المسلمين لما رأوا جراحات إخوانهم، وشاهدوا جثث الأطفال والآباء، وكيف صنعت بها الأسلحة المجرمة، وحق لهم أن تتحرك مشاعرهم، فمن ذا الذي لا يرق لتك المشاهد غير أولئك الذين لعنهم الله فجعل قلوبهم قاسية؛ كالحجارة بل أشد قسوة، قال الله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلاّ قليلاً منهم} [المائدة: 13]، وإذا كان أسلافهم الذين شهدوا موسى ورأوا من آيات الله المعجزة ما رأوا يقول الله فيهم: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة}؛ فكيف بهؤلاء الذين باؤوا بغضب على غضب؟

وقد شهدت الساحة أنواعاً من التفاعل ربما تباين الحكم على بعضها بل ربما جزم العالمون بتحريم بعضها، غير أنهم مجمعون على حمد ما قام في قلوب كثير من أصحابها.. وكم من مريد للخير لم يبلغه، والنية تبلغ ما لا يبلغ العمل.

ومن التفاعل المحمود في هذه الأزمة:

جهود البذل والإنفاق وجمع التبرعات، التي لاقت بحمد الله إقبالاً كبيراً، فما يُفْتَح باب للتبرع حتى يتهافت الناس عليه، فقيرهم وغنيهم، صغيرهم وكبيرهم، والله نسأل أن يتقبل منهم وأن يبارك في تلك الأموال وأن يجعلها ذخراً لهم وعذراً عند لقائه.

والجهاد بالمال من أعظم الجهاد، ولهذا قرنه الله بالجهاد بالنفس بل قدمه عليه في سائر المواضع في القرآن إلاّ في موضع واحد فقال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله} [التوبة: 111]، وفي عشر مواضع غيرها قدم ذكر الجهاد بالمال[1].

ولئن كانت الأرض المباركة؛ بيت المقدس وأكنافه، دار الإسلام، وأرض المعراج، في قبضة العدو الكافر اليوم، فإن جهاده واجب، وعصب هذا الجهاد هو عصب الحياة أعني المال، فبذله للمجاهدين ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس واجب علينا وهو حق لهم، وهم مصرف من مصارفه، وقد صرح بعضهم بأن زكاة بعض أثرياء تجار المسلمين لو هي أخرجت لهم في عام واحد لكانت كفيلة بتحصيلهم الأسباب المادية، المقتضية لنصرهم بإذن الله عز وجل.. فهل من مشمر لنصر جند الله في الأرض المباركة؟ ولاسيما أن هذا المصرف أوجب وأولى من المصارف العامة للصدقات كالبذل في الإنشاء والإعمار ونحوهما مما تشترى فيه المواد غالباً من مصانع الأعداء، فيستفيد هؤلاء وتروج سوقهم، ثم يعيدون كرة التدمير من جديد! مع أن الزكاة لها في بعض أوجه الإنفاق هناك مجال رحب، غير أنه لا تختص بها تلك الأرض، بل المزية قد تتفاوت بحسب القرابة والبعد، وشدة الحاجة في الداخل والخارج.

أما دعم الجهاد؛ فله هناك مزية باعتبار الأرض المباركة، ولو لمن تكن له تلك المزية، فإن البذل الذي تتحقق به الكفاية غير حاصل، وعند أثرياء المسلمين خزائن الأموال، وفضول الأحوال، وفوق هذا كله لو دُعِمَ المجاهدون الصادقون، وحصَّلوا من العتاد ما يكفيهم، فعندها لن تحتاج أرض فلسطين إلى تبرعات لدفن الموتى وعلاج الجرحى، وبناء ما تهدم! لأن صواريخ العدو الصهيوني لن تقع بإذن الله بفعل المضادات الإسلامية.

وفرق بين من يبذل المال ليعز دين الله وينصر جنده، وبين من يبذله لدفن الموتى وتأهيل الجرحى والمعاقين! والواجب الذي يختص بواقع الجهاد في الأرض المباركة هو البذل في سبيل الله، لا البذل في أوجه البر الأخرى..على أهميته، فلو أنفق باذل المليارات في أبواب البر والإعمار لم يسقط ذلك عنه واجب نصرة المقاومة بالمال، فالفريضة قائمة، والحاجة ماسة، والمغبون من اجتهد في النفل وضيع الفرض! حتى وإن كان ذلك النفل إعمار غزة، بل حتى لو كان ذلك النفل عمارة بيت الله الحرام حساً ومعنى، وتأمل قول الله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجره عظيم} [التوبة: 19-22]، والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــ

[1]     كما في سورة الصف:9، والحجرات: 15، والتوبة: 88، 81، 44، 41، 20، والأنفال: 72، وموضعين من آية النساء: 95.