كلام ابن الشماع الحلبي عن السيوطي في القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي

كلام ابن الشماع الحلبي عن شيخه العلامة السيوطي

في (القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فإن ممن ظفروا باللقاء بعلامة الدنيا الحافظ جلال الدين السيوطي وغنموا الأخذ عنه في أواخر حياته العامرة بالعطاءات العلمية الوافرة=العلامة زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي الشافعي(880-936 هـ)، وهو يُعد من أواخر من التقوا بالإمام السيوطي في رحلته للديار المصرية، ومن أواخر من قرؤوا عليه وأجيزوا منه، بل قد يسر الله له حضور الصلاة عليه وشهود دفنه،

وكنت قد نشرتُ من قبل على شبكة الألوكة (قصيدته التائية) في رثائه التي مطلعها:

وأما الذي[1] في أرض مصر ثوى بها * فذاك جلالُ الدين شيخُ البريةِ

وعدتها: 10 أبيات.

ونشرت مقالا آخر عن: كلامه عن شيخه العلامة جلال الدين السيوطي في كتابه الفذ: (عيون الأخبار فيما وقع لجامعه في الإقامة والأسفار)

ومقالا ثالثا تضمن كلامه عنه في كتابه: (تحفة الثقات بأسانيد ما لعمر الشماع من المسموعات) لِما فيه من معلومات فريدة، وحقائق جديدة ومفيدة،

ومقالا رابعا عن مقروءات العلامة ابن الشماع على العلامة السيوطي من (ثبته الكبير)

وهذا مقالٌ خامسٌ أجرد فيه كلامه عن شيخه العلامة السيوطي من كتابه: (القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي) الذي اختصر فيه الكتاب الحافل: (الضوء اللامع في تراجم أعلام القرن التاسع) لشيخه العلامة السخاوي، مع زوائد وتتمات مهمة، وأسأل الله النفع به، وأن يغفر لي بسببه.

***

قال -رحمه الله- في الترجمة رقم: (348)[2]:

عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد بن خليل بن نصر بن الخضر بن الهمام، الجلال بن الكمال بن ناصر الدين، السيوطي الأصل، الطولوني، الشافعي، ويعرف بابن الأسيوطي.

ولد في أول ليلة مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثماني مئة، وأمه أمة تركية[3]، ونشأ يتيما، فحفظ:

1- القرآن

2- والعمدة

3- والمنهاج الفرعي

4- وبعض الأصلي

5- وألفية النحو،

وعرض في سنة 64[4]،

وأخذ عن:

1- الشمس محمد بن موسى الحنفي إمام (الشيخونية)[5] في النحو،

2- وعن الفخر عثمان المقسي،

3- الشمس البامي[6]،

4- وابن الفالاتي،

5- وابن يوسف أحد فضلاء (الشيخونية)،

6- والبرهانين العجلوني

7- وفيما قيل: النعماني، بعضهم في الفقه، وبعضهم في النحو،

8- ثم ترقى حتى قرأ في بعض المتون الفقهية على العلم البلقيني[7]،

9- وحضر عند الشرف المناوي يسيرا جدا، ولمح له بالأدب حيث قال-وقد تألم من جلوسه فوق ملا علي-: كنا ونحن صغار لا نجلس إلا خلف الحلقة... في كلماتٍ من هذا النمط، وحينئذ انقطع،

10- وأخذ عن كل من السيف،

11- والشمني [8]

12- والكافياجي الحنفيين شيئا من الفنون،

13- وفيما زعم عن الشهاب الشارمساحي بعض (شرحه"المجموع") للكلائي،

14- وعن العز الميقاتي (رسالة في الميقات)،

15- وعن محمد بن إبراهيم الشرواني الرومي الطبيب بـ(القاهرة) (مختصرين في الطب) لابن جماعة،

16- وعن العز الحنبلي دروسا في الأصول،

17- وتردد يسيرا للزين قاسم الحنفي،

18- والبقاعي.

19- وتدرب بالشهاب المنصوري وغيره في النظم.

20- وسمع على بقايا من المسندين كـ:القمصي،

21- والحجازي،

22- والشاوي،

23- والملتوتي،

24- ونشوان،

25- وهاجر.

26- وأجاز له من حلب جماعة منهم: ابن مقبل، خاتمة من أجاز له الصلاح ابن أبي عمر.

ولم يمعن في الطلب في كل ما أشرت إليه.

ثم سافر إلى:

1- (الفيوم)

2- و(دمياط)[9]

3- و(المحلة)، وغيرها، فكتب عن جماعة ممن ينظم،

4- ثم إلى (مكة)[10] في البحر في ربيع الآخر سنة سبع وستين،

27- فأخذ قليلا عن المحيوي عبد القادر المالكي،

28- واستمد من صاحبنا النجم ابن فهد ...في آخرين[11].

وأذن له غير واحد في الإفادة والتدريس،

وساعده العلم البلقيني حتى باشر تصدير الفقه بـ(الجامع الشيخوني) الذي صار إليه بعد أبيه، وحضر معه إجلاسه[12] فيه،

ثم انجمع عن الناس، وتمشيخ، وخاض في فنون خصوصا هذا الشأن.

انتهى كلامه ملخصا[13]

***

هذا الشيخُ هو الثامن عشر ممن وقع ذكرهم في (الأصل)[14] من مشايخي الأعلام الذين أخذت عنهم بغير واسطة،

بل هو خاتمة المجتهدين، وبركة المسلمين، وعلم الأعلام، وقد أخذ عنه غير واحد من مشايخي لجلالته وعلو قدره.

منهم:

1- شيخي الحافظ عز الدين عبد العزيز بن فهد الهاشمي المكي، وذكره[15] في (معجمه)،

2- بل ذكره في (معجمه) شيخ شيوخي الحافظ ابن فهد الملقب بنجم الدين، وكذا ذكره أيضا في (معجمه) صاحب (الأصل) كما ذكره كذلك شيخي الحافظ عز الدين.

ومع ذلك فقد حذفتُ كثيرا من كلامه في الترجمة، مما لا ينبغي أن يقال في مثل هذا الإمام الهمام المجتهد العمدة.

نعم قد صنع نحو ذلك شيخنا صاحب الترجمة في مؤلَّفه: (نظم العقيان)[16]، فترجم صاحب (الأصل) ترجمة واهية، هدم بها كثيرا من رتبته العالية، وما ذلك إلا لما يقع غالبا من المنافسة بين المعاصرين في الزمان والأقران[17]، ولله در القائل من الأئمة الأماثل حيث قال:

إنه لا يعمل بما يقع من التنافس بين المتعاصرين من الأقران[18].

ولقد أنصف بينهما، ورفع قدرهما شيخنا العلامة خاتمة المحققين، ونووي الزمان، قاضي القضاة زكريا الأنصاري الشافعي حين سئل عنهما: أيهما أعلم بالحديث؟

فأجاب بقوله-كما أخبرني من أثق به-:

السيوطي: عالم المسلمين، والسخاوي: فارس هذا الشأن.[19]

فلله دره على هذا الجواب الذي هو كالذهب الإبريز، المبين لقدرهما بالإنصاف واللفظ الوجيز، فرحم الله كلا، وبوأهما في الجنة غرفا وظلا.

إذا علمت ما ذكرناه، واتضح لك ما قررناه،

فشيخنا صاحب الترجمة قد فاق الأقران، وسارت بـ:(تصانيفه) الفائقة في الآفاق الركبان، ظفر من العلم بطائل، وأدرك من سبقه فيه من العلماء الأوائل، برع صغيرا، ومهر في فنون العلم حتى صار بسيادتها جديرا، وامتطى مراتب الأسلاف، وفاق كثيرا منهم بلا خلاف.

أما (التفسير)، فنثر فيه (دُرَّه المنثور)،

وأما (الحديث)، فـ(مؤلفاته) فيه أمرها مشهور،

وأما (الفقه)، فقد أسس (الأشباه والنظائر) أي تأسيس،

وزان في هذا العصر العاطل، فحلى[20] بلفظه المذهب مذهب محمد بن إدريس[21]،

وأما (النحو)، فلو أدركه الخليلُ لاتخذه خليلا، فلقد أجاد فيه بـ(قواعده النحوية) وأشفى غليلا.

فهو حبرٌ ربِحَ من ابتاع من متاعه، وبحرٌ رَحْبٌ خسر من لم يكتل بصاعه، وسعى في إضاعة بضاعته، من لم يتعلم من صناعته.

اجتمعتُ به غير مرة بـ(منزله) قرب (جامع ابن طولون)[22] من (القاهرة)[23]

في سنة أربع وتسعمائة، ثم ترددت إلى (منزله) بـ(الروضة)[24] في أوائل سنة إحدى عشرة، وقرأت وسمعت عليه جملة من تصانيفه، ومروياته، وشملتني بركته في حياته، وبعد مماته[25]، ولازمته في السنة الثانية، وانتشقت من أنفاسه العاطرة، وارتشفت من زلال كلماته ما تسر به النفوس، وجلَّى للسمع من أبكار أفكاره الصحيحة كلَّ عروس، كرعتُ من حياضه، وجنيتُ من أزهاره وثماره، وعلقت فوائد من لفظه، وكتبت جملة من مؤلفاته ونظمه، واستمريت أتردد إلى (منزله) بـ(الروضة) إلى أن انتقل بالوفاة إلى الدار الآخرة.

وهو أحد مشايخي الخمسة الذين حصل لي الأنس بهم، وأكثرت من الأخذ عنهم، والتردد إليهم، وباقيهم:

المحيوي عبد القادر الأبار، فقيه حلب.

وقاضي الشافعية بها جلال الدين محمد بن النصيبي-بلغه الله في الدار الآخرة غايةَ الأرب-

والشمس الرمادي الكردي

والحافظ عز الدين عبد العزيز بن فهد الهاشمي المكي.

وسيأتي ذكرهم حاشا الرمادي في محالهم من هذا (الكتاب) –تغمدهم الله بالرحمة والرضوان، وأفاض على قبورهم شآبيب العفو والغفران-.

فصاحبُ الترجمة أول من قرأت عليه في (مؤلفاته) المرضية

والمحيوي أول من بحثتُ عليه (الفقه) المشتمل على الأحكام الشرعية

والجلال النصيبي أول من قرأت عليه في الحديث الشريف

والعز بن فهد أول من أخذت عنه بمكة من أهلها.

توفي صاحبُ الترجمة بـ(منزله) من (الروضة) في ليلة الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة، سنة إحدى عشرة وتسعمائة.

وحضرت الصلاة عليه بعد الجمعة، ودفن بالقرافة،

وقد كتبت عنه جملة في (المواهب المكية في نظم التائية)، فقلتُ مما يتعلق بصاحب الترجمة:

1. وأما الفتى[26] في أرض مصر ثوى بها=فذاك جلالُ الدين شيخُ الطريقة[27]
2. لأسيوطَ يُعزَى أصلُه بتَحقّقٍ=ومنشؤه في مصر مِن غير ريبةِ
3. إمام الهدى، بحر الندى، سابق المدى=يُجيبُ[28] العِدا حقا بأوضح حُجَّةِ
4. رقى باجتهادٍ رتبةً عزَّ نيلُها=على الشهُب الماضين من غير مِرْيةِ
5. لحاسده جهلٌ مركبُ مذْ[29] غدا=على فضله إجماعُ أهل البسيطةِ[30]
6. (تآليفُه) كالشمس ضاءتْ[31] وأشرَقَتْ=فسارت بها الركبان في كل وِجهةِ
7. ففي عام إحدى بعد عشرٍ تضرَّمَتْ=لتسع مئينٍ سار حقا برحلةِ
8. ومِن روضةِ المقياس[32] كان فراقنا=مِن الله نرجو الجمعَ في روضِ جَنَّةِ[33]

ولْنقف هنا على ذكر الجَنَّةِ، تغمده الله بالرحمة، وجمعنا به في الآخرة بمنه وكرمه.

***

انتهى الترجمة بحمد الله

نسأل الله تعالى أن يتغمدهما برحمته الواسعة، وأن يجبر مصابنا على فراق علمائنا وشيوخنا وكل أحبابنا، ونسأله أن يختم لنا بالحسنى، ويبلغنا المحل الأرفع الأسنى. آمين.

***

صورة المرثية بخط ناظمها العلامة ابن الشماع الحلبي رحمه الله وطيب ثراه