ثلاثون مثالا على مفهوم الموافقة

ثلاثون مثالاً على مفهوم الموافقة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإن لعلم أصول الفقه أهمية بالغة في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة في الشرع، وعن طريقه يتمكن الفقيه من الوصول للحكم بسهولة ويسر، ويتمكن من معرفة الراجح من المرجوح من أقوال الفقهاء وتمييز الأقوال الصحيحة من السقيمة، وكان أصول الفقه ولا زال وسيلة للدفاع عن الدين.

وفائدة أصول الفقه لا تقتصر على استنباط الأحكام الفقهية وحسب، بل تتعدى إلى جميع الأحكام الشرعية، فلا يستغني عن أصول الفقه فقيه ولا مفسِّر ولا محدث ولا شارح للعقيدة؛ فهو علم لتفسير النصوص، والترجيح بين الأقوال، وبه يُفهَم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك، التعمق في أصول الفقه وتطبيق الأصول على الفروع ينمي الملكة الفقهية، والقدرة على الاستنباط، ومع كثرة التطبيقات على مباحث الأصول تزداد الملكة، وكفى بهذه فائدة!

وسوف نتناول في هذا البحث ثلاثين مثالاً على مفهوم الموافقة، ومفهوم الموافقة أحد مباحث أصول الفقه؛ أملاً في تنمية الملكة الفقهية لدى القارئ، ولزيادة قدرته على الاستنباط بكثرة الأمثلة والتطبيقات، وفي مقالات لاحقة بإذن الله سنتناول تطبيقات على مباحث أخرى، والله ولي التوفيق.

♦ ♦ ♦ ♦

قبل الشروع في ذكر الأمثلة على مفهوم الموافقة، لا بد أن نلقي الضوء قليلاً على تعريفها، مفهوم الموافقة هو دلالة اللفظ على أن الحكم في المسكوت عنه موافقٌ للحكم في المنطوق به من جهة الأولى[1]، أو ما يكون وصف مسكوته يوافق وصف منطوقه، وقد يكون أولى بذلك الوصف الذي هو مظنة الحكم ومقتضى الحكمة، ويسمى فحوى الخطاب، ولحن الخطاب[2]، ولحن الخطاب: المراد به معنى الخطاب[3].

وسميت مفهوم موافقة؛ لأن المفهوم وافق المنطوق في حكمه بناءً على موافقته له في علته موافقة تفهم بمجرد فهم اللغة، ويسمى فحوى الخطاب؛ أي: رُوحه وما يُعقل منه؛ لأن كل نص دل على حكم في محل العلة، يدل على ثبوت هذا الحكم في كل محل تتحقق فيه العلة بتبادر الفهم، أو تكون العلة أكثر توافرًا فيه[4].

الأمثلة

مثال1: قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ [الإسراء: 23]، دلالة العبارة: تحريم التأفف، ودلالة الموافقة: تحريم الضرب والشتم؛ لأنه أشد إيذاءً للوالدين.

مثال 2: قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، دلالة العبارة: تحريم أكل أموال اليتامى ظلمًا، ودلالة الموافقة: تحريم إتلاف أموال اليتامى بأي وسيلة؛ لأنه مساوٍ لأكل أموال اليتامى في تضييع مال اليتيم.

مثال 3: إذا كانت زيارة القبور للتذكرة مستحبة، فزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى.

مثال 4: إذا حرُم السفر لزيارة القبر النبوي وحده، فمن باب أولى تحريم السفر لزيارة قبر مَن سواه.

مثال 5: إذا كان قليلُ ما يُسكر حرامًا، فكثيره حرام من باب أولى.

مثال 6: إذا كان السفر للتقرب إلى الله في مسجد غير المساجد الثلاثة حرامًا، فمن باب أولى حرمة السفر لزيارة قبر أحد للتذكرة.

مثال 7: إذا كان تعلم الدين مستحبًّا، وقد يكون واجبًا، فمن باب أولى تعليمه.

مثال 8: إذا كان التشبه بالكفار من بني آدم حرامًا، فالتشبه بالكفار من الشياطين من باب أولى.

مثال 9: إذا ذُكر كلبٌ وسط صالحين لمجالسته لهم، فمن باب أولى ذكر الشخص الذي في وسط الصالحين.

مثال 10: قوله تعالى: ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ﴾ [النساء: 34]، فإذا كانت المرأة ليست قيِّمة على بيتها، فكيف تكون قيِّمة ولها القوامة على ملايين من الناس؟! والتنبيه بالأدنى تنبيه بالأعلى.

مثال 11: إذا أُمِر الكافر بفروع الشريعة، فمن باب أولى أصولها، وهو الدخول في الإسلام.

مثال 12: إذا كان للميت حرمة، فمن باب أولى الحي.

مثال 13: إذا جازت زكاة المال لشراء السلاح للجهاد، فمن باب أولى إعطاؤها لطلبة العلم لنشر الدين.

مثال 14: إذا أكرم المكان الذي يجلس فيه الشخص، فمن باب أولى صاحب المكان؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ﴾ [يوسف: 21].

مثال 15: إذا كان الأنبياء معصومين من الكبائر، فمن باب أولى العصمة من الشرك.

مثال 16: قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27]، فإذا كانت القدرةُ على ابتداء الخَلق أصعب، وكان الله قادرًا على ابتداء الخَلق، فمن باب أولى أن يكون قادرًا على إعادته؛ فهي أسهل، وكل شيء عند الله يسير، والذي خلَق هذه المخلوقات الهائلة العظيمة الكبيرة قادر على أن يُعيد الإنسان؛ لأن القادر على الشيء العظيم يقدر على ما دونه من باب أولى.

مثال 17: إذا جاز قتلُ العقرب في الحرَم، فمن باب أولى الأَسد.

مثال 18: إذا كانت الغِيبة والبهتان على آحاد المسلمين لا تجوز ومحرمة، فمن باب أولى في حق الصحابة.

مثال 19: إذا كان الغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم ممنوعًا، فالغلو في حق غيره من باب أولى.

مثال 20: إذا كان هناك تباين بين المخلوقات بعضها مع بعض في الصفات، فالتباين بينها وبين خالقها في الصفات من باب أولى.

مثال 21: قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فهو خاتم المرسلين من باب أولى، وإذا كانت النبوة بعد نبيناصلى الله عليه وسلم ممنوعة، فالرسالة ممنوعة من باب أولى؛ لأن الرسول لا بد أن يكون نبيًّا.

مثال 22: قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [القصص: 56]،فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يملِكْ لعمه أبي طالب الهداية، فغيره من باب أولى.

مثال 23: قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 188]، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يملِك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فهو من باب أولى لا يملِك لغيره الضر والنفع، أو الهداية والصلاح، بل كل ذلك بيد الله وحده، مما يدلُّ على بطلان التعلُّق به لجلب النفع أو دفع الضُّر، وغير النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى.

مثال 24: إذا نُهِي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرك، فغيره من باب أولى، والخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم موجَّه إلى أمته، إلا إذا دل دليل على اختصاصه به، والحكمة من نهيِه عن الشِّرك أن يكون غيره متأسيًا به، فإذا كان النهي موجهًا إلى من لا يقع في الشرك باعتبار حاله، فهو إلى مَن يمكن أن يقع منه الشرك من باب أولى.

مثال 25: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 1]؛ أي: اثبُتْ على التقوى، وداوم عليها، وإذا أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على التقوى والدوام عليها، فغير النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى.

مثال 26: قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]،فإذا كان الأنبياء وهم صفوة الناسِ لو أشركوا - وحاشاهم - لحبِطت أعمالهم، فغيرهم من باب أولى.

مثال 27: عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلمنهى أن يبنى على القبور، أو يُقعَد عليها، أو يصلَّى عليها[5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تجلِسوا على القبور، ولا تصلُّوا إليها))[6]، والنهي عن السجود على القبر أولى من النهي عن الصلاة إلى القبر؛ إذ هو أخص من الصلاة إليه، وعن عائشة أم المؤمنين: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسةً رأينَها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، فأولئك شرارُ الخَلق عند الله يوم القيامة))[7].

مثال 28: الإله الذي لا يستطيع أن يحمي نفسه ممن كسره وأهانه، ولا يستطيع أن ينطقَ فيخبر عمن فعل به ذلك - هو عاجز عن نفع غيره أو ضره، وعن حماية مَن يعبده مِن باب أولى.

مثال 29: قوله تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، فإذا كان حُكم الكفر يُعفى عنه مع الإكراه، فما دون الكفر - كالإكراه على الفِطر في رمضان - من باب أولى.

مثال 30: قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ﴾ [البقرة: 282]، شَهادة المرأة إذا كانت على النصف من شهادة الرجل بنص القرآن، فيستلزم ذلك ألا تستقلَّ بالحُكم الذي هو نتيجة الشهادة من باب أولى، فلا يصح للمرأة أن تكون قاضية؛ لأن القضاء هو الإخبار عن حُكم شرعي على سبيل الإلزام، ويستقل القاضي بالحكم، فإذا كان القضاء الذي هو ولاية صغرى - كالوزارة - لا يجوز من المرأة، فكيف بالرئاسة؟!

هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.