وصول الأماني بذكر تعقبات العسقلاني على العلامة الكرماني في شرحه لصحيح البخاري (3)

وصول الأماني

بذكر تعقُّبات الحافظ ابن حجر العسقلاني

على العلامة الكِرماني في شرحه لصحيح البخاري (3)

• كان الحافظ ابن حجر - رحمه الله - يقول: ((لو التقط من "الفتح" بيان ما وقع للكرماني في شرحه، وللزركشي في تنقيحه؛ لكان شرحًا حسنًا. يسر الله ذلك)). "الجواهر والدرر" (2/708).

• وكان حريصًا على الالتقاط المذكور، وإفراده بالتصنيف، فما لبَّى أحد من تلامذته دعوته. "الجواهر" (2/698).

• طريقتي في هذا الكتاب أديرها على ذكر الحديث محل البحث بديئًا من "الجامع الصحيح" برواية أبي ذَرٍّ الهَرَوِي عن مشايخه: المُسْتَمْلِي، وابن حَمُّوَيْه السَّرَخْسِي، والكُشْمِيْهَنِي، ثلاثتهم عن الفِرَبْرِي، عن البخاري. ثم إنني أثني بذكر كلام الكِرماني. ثم أختم بذكر تعقب ابن حجر العسقلاني. وربما ذكرت في الحواشي بعضَ فوائدَ مما له تعلق بالسياق.

بسم الله الرحمن الرحيم

عَوْنَك يا لطيف

• قال الإمام البخاريُّ - أحله الله بحابيح جناته، وكساه جلابيب عفوه وغفرانه -: كيف كان بَدْء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وقول الله - عز وجل -: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ﴾[1] الآيةَ.

(2) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ  - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ[2] عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ".

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ فِي اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. انتهى.

• قال العلامة الكرماني[3]:

((قوله: "كَيْفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟": إسناد الإتيان إلى الوحي من باب المجاز، ومثله تارة يسمى بالمجاز العقلي، والمجاز في الإسناد، وأصله: كيف يأتيك حامل الوحي؟ فأسند إلى الوحي للملابسة التي بين الحامل والمحمول. وتارة يسمى بالاستعارة بالكناية، أي: شبه الوحي برجل مثلاً وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص التشبيه.

ثم لعل المراد منه السؤالُ عن كيفية ابتداء الوحي، أو عن كيفية ظهور الوحي؛ لتوافق ترجمة الباب)). انتهى.

• قال الحافظ ابن حجر[4]:

((قوله: "كَيْفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟": يحتمل أن يكون المسئول عنه صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون صفة حامله، أو ما هو أعم من ذلك. وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز؛ لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله.

واعترض الإسماعيلي فقال: ((هذا الحديث لا يصلح لهذه الترجمة، وإنما المناسب لكيف بدء الوحي الحديث الذي بعده، وأما هذا فهو لكيفية إتيان الوحي لا لبدء الوحي)) انتهى.

ثم نقل الحافظ كلام الكرماني في الجواب: ((لعل المراد منه السؤال عن كيفية ابتداء الوحي أو عن كيفية ظهور الوحي فيوافق ترجمة الباب)).

ثم قال:

((قلت: سياقه يشعر بخلاف ذلك؛ لإتيانه بصيغة المستقبل دون الماضي، لكن يمكن أن يقال: إن المناسبة تظهر من الجواب؛ لأن فيه إشارةً إلى انحصار صفة الوحي أو صفة حامله في الأمرين؛ فيشمل حالة الابتداء.

وأيضًا فلا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة، فضلًا عن أنا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامَيِ الحجاز، فبدأ بمكة ثم ثَنَّى بالمدينة.

وأيضًا فلا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببَدء الوحي، بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضًا، وذلك أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه، ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله؛ ناسب تقديم ما يتعلق بها وهو صفة الوحي وصفة حامله، إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه، فحسُن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال الذي تقدم التقدير بأن تعلُّقه بالآية الكريمة أقوى تعلُّق. والله - سبحانه وتعالى - أعلم)).

♦♦♦

• وقال العلامة الكرماني [5] من كلامه على الحديث السابق:

((فإن قلت: هاهنا نوع آخر[6]، وهو الرؤيا الصادقة؟

قلت:

1- المقصود من السؤال كان طلب بيان ما يختص به، ويخفى ولا يُعرف، والرؤيا معروفة؛ فلا دخل لها فيه.

2- أو كان ظهور ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام أيضًا إما بصلصلة الجرس وإما بتمثل الملك.

3- أو كان السؤال عن كيفية الوحي حال اليقظة.

4- أو كان عند السؤال نزول الوحي على هذين الوجهين، إذ الوحي على سبيل الرؤيا إنما هو في أول البعثة؛ لأن أول ما بُدِئ به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا، ثم حبب إليه الخلاء، كما روي في الحديث إلى آخره. وقيل ذلك في ستة أشهر فقط، وأن الوجود بعد إرسال الملك منغمر في الوحي فلم يحسب)). انتهى كلام الكرماني.

• فقال الحافظ ابن حجر[7] بخصوص الجواب الأول، وقد سُبق إليه الكرماني:

((وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال[8]: ((لا ترد؛ لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس؛ لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره)).

قال الحافظ:

((والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءًا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيًّا، وليس كذلك)).

ثم أورد الحافظ الاحتمال الثاني من كلام الكرماني، وقال عقيبه: ((فيه نظر)) ا.هـ.

قلت (وائل): وأمر ذلك ظاهر؛ إذ لا دليل يؤازر. والله أعلم.

♦♦♦

• وقال العلامة الكرماني [9] من كلامه على الحديث السابق أيضًا:

((قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ": الصلصلة بفتح الصادين: صوت كل شيء مصوت، كصوت السلسلة. وقيل: هو الصوت المتدارك.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مِثْلَ": هو حال، أي: يأتيني مشابهًا صوته صلصلة الجرس.

والجرَس بفتح الجيم: شبه ناقوس صغير، أو سَطْل[10]، في داخله قطعة نحاس، يعلق منكوسًا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فتحصل صلصلة)). انتهى.

• قال الحافظ ابن حجر[11]:

((الجرس: الْجُلْجُل الذي يعلق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجرْس بإسكان الراء، وهو الحس.

وأما قول الكرماني فيه فتطويل للتعريف بما لا طائل تحته، وقوله: ((قطعة نحاس)) معترَض لا يختص به، وكذا: ((البعير))، وكذا قوله: ((منكوسًا))؛ لأن تعليقه على تلك الصورة هو وضعه المستقيم له)).